تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري

تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان - ج ٣

المؤلف:

نظام الدين الحسن بن محمّد بن حسين القمي النيسابوري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢١

متقاربان كأنه قيل : نشرها نشرا. ومن قرأ (نَشْراً) بضمتين فلأنه جمع نشور كرسول ورسل ، وقد تخفف كرسل ، ومن قرأ (بُشْراً) بضم الباء الموحدة وسكون الشين فلأنه مخفف بشر جمع بشير. ومعنى : (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) أمام نعمته وهي الغيث الذي هو من أجلّ النعم وأحسنها وهذا بحسب الأغلب ، فإن المطر قلما لا يتقدمه رياح يسلطها الله تعالى على السحاب والعرب تستعمل اليدين بدل قدام وأمام مجازا لأن اليدين من الحيوان متقدمان على الرجلين. (حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ) حملت ورفعت واشتقاقه من القلة لأن الرافع الذي يقدر على حمل الثقيل يزعم أن ما يرفعه قليل (سَحاباً) جمع سحابة ولهذا قال : (ثِقالاً) على الجمع جمع ثقيلة والضمير في (سُقْناهُ) يعود إلى السحاب على لفظه ، وضمير المتكلم في (سُقْناهُ) على أصله. أما الذي في قوله : (وَهُوَ الَّذِي) فعلى طريقة الالتفات وإلا فالظاهر أن يقال : نحن أرسلنا. واعلم أن السحاب المستمطر للمياه العظيمة إنما يبقى معلقا في الهواء لأنه تعالى دبر بحكمته أن يحرك الرياح تحريكا شديدا. ولتلك الحركات فوائد منها : أن أجزاء السحاب ينضم بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقد السحاب الكثيف الماطر ثم تصير متفرقة. ومنها أن تتحرك الرياح يمنة ويسرة فتمنع الأجزاء المائية الرشية عن النزول فيبقى معلقا في الهواء. ومنها أن ينساق السحاب إلى موضع علم الله احتياجهم إلى نزول الأمطار ، ومن الرياح مقوية للزروع والأشجار ومكملة لما فيها من النشوء والنماء وهي اللواقح. ومنها مبطلة لها كما في الخريف. ومنها طيبة لذيذة موافقة للأبدان. ومنها مهلكة للحر الشديد كالسموم أو البرد الشديد. ومنها مشرقية ومغربية وشمالية وجنوبية ، وبالحقيقة تهب الرياح من كل جانب ولكنها ضبطت كذلك ، وقد يصعد الريح من قعر الأرض فقد يشاهد غليان شديد في البحر بسبب تولد الرياح في قعره ثم لا يزال يتزايد ذلك الغليان إلى أن ينفصل الريح إلى ما فوق البحر ، وحينئذ يعظم هبوب الرياح في وجه البحر ، وعن ابن عمر : الرياح ثمان : أربع منها عذاب وهو العاصف والقاصف والصرصر والعقيم ، وأربع منها رحمة الناشرات والمبشرات والمرسلات والذاريات ، وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور والجنوب من ريح الجنة» (١). وعن كعب : لو حبس الله الريح عن عباده ثلاثة أيام لأنتن أكثر الأرض. وعن السدي أنه تعالى يرسل الرياح فتأتي بالسحاب ، ثم إنه تعالى يبسطه في السماء كيف يشاء ثم يفتح أبواب السماء فينزل الماء على السحاب ، ثم يمطر السحاب بعد ذلك برحمته وهي المطر. ومعنى

__________________

(١) رواه البخاري في كتاب الاستسقاء باب ٢٦. كتاب بدء الخلق باب ٥. مسلم في كتاب الاستسقاء حديث ١٧. أحمد في مسنده (١ / ٢٢٣).

٢٦١

(لِبَلَدٍ مَيِّتٍ) أي لأجل بلد ميت ليس فيه نبات ولا زرع ، والبلد كل موضع من الأرض عامر أو غير عامر خال أو مسكون. (فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ) قال الزجاج وابن الأنباري : أي بالبلد. وجائز أن يراد بالسحاب أو بالسوق فالباء للسببية. (فَأَخْرَجْنا بِهِ) قال الزجاج : أي بالبلد. (مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ويجوز أن يراد أي بالماء. قال جمهور الحكماء : إنه تعالى أودع في الماء قوّة وطبيعة توجب حدوث الأحوال المخصوصة عند امتزاج الماء بالتراب. وقال أكثر المتكلمين : إن الثمار ليست متولدة من الماء وإنما أجرى الله تعالى عادته بخلق النبات ابتداء عقيب اختلاط الماء بالتراب (كَذلِكَ) مثل ذلك الإخراج وهو إخراج الثمرات. (نُخْرِجُ الْمَوْتى) فالتشبيه إنما وقع في أصل الإحياء أي كما أحيا هذا البلد وأنبت فيه الشجر وجعل فيه الثمر كذلك يحيي الموتى بعد أن كانوا ترابا لأن من قدر على إحداث الجسم وخلق الرطوبة والطعم فيه كان قادرا على إحداث الحياة في بدن الميت. وقال كثير من المفسرين : المراد أنه تعالى كما يخلق النبات بواسطة إنزال الماء كذلك يحيي الموتى بواسطة إنزال مطر على الأجساد الرميمة. يروى أنه يمطر على أجساد الموتى فيما بين النفختين مطر كالمني أربعين يوما فينبتون عند ذلك أحياء. وعن مجاهد : تمطر السماء عليهم حتى تنشق عنهم الأرض كما ينشق الشجر عن النور والثمر ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها. قال العلماء : إن هؤلاء المفسرين ذهبوا إلى هذا بناء على النقل وعلى إجراء العادة وإلا فإنه تعالى قادر على خلق الحياة في الجسم ابتداء من غير واسطة المطر كما أنه يجمع بقدرته الأجزاء المتفرقة والمتمزقة غاية التفرق والتمزق ولهذا ختم الآية بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) والمعنى أنكم شاهدتم أن الأرض كانت مزينة وقت الربيع والصيف والخريف بالأزهار والثمار والأشجار ثم صارت وقت الشتاء ميتة عارية عن تلك الزينة ، ثم أحياها مرة أخرى ، فالقادر على إحيائها قادر على إحياء الأجساد بعد موتها ، ثم ضرب الله سبحانه مثلا للمؤمن والكافر وشبه القرآن بالمطر ، وذلك أن الأرض الحرة إذا نزل بها المطر حصل فيها أنواع الأزهار والثمار والأرض السبخة بعد نزول المطر لا يخرج منها إلا النزر القليل من النبات ، فكذلك النفس الطاهرة النقية من شوائب الأخلاق الذميمة إذا اتصل بها أنوار القرآن ظهرت عليها أنواع المعارف والأخلاق الفاضلة ، والنفس الخبيثة لا ترجع من ذلك إلا بخفي حنين. وقيل : ليس المراد من الآية تمثيل المؤمن والكافر وإنما المراد أن الأرض السبخة يقل نفعها وثمرتها ، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعا منه في تحصيل ما يليق بها من المنفعة. فمن يطلب هذا النفع اليسير فلأن يطلب النفع العظيم الموعود به في الدار الآخرة بالمشقة التي لا بد منها ومن تحملها في أداء الطاعات كان

٢٦٢

أولى. وفي الآية دلالة على أن السعيد لا ينقلب شقيا وبالعكس ، لأنها دلت على أن الأرواح قسمان : منها ما تكون في أصل جوهرها طاهرة نقية مستعدة لأن تعرف الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، ومنها ما تكون بالضد لا تقبل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة كالأرض السبخة التي لا يتولد فيها الأشجار والأنهار والثمار. ومما يقوّي هذا الكلام أن النفوس نراها مختلفة في الصفات ؛ فمنها مجبولة على حب الإلهيات منصرفة عن اللذات الجسمانيات كقوله تعالى : (تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ) [المائدة : ٨٣] (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) [البقرة : ٢٧٣] ومنها قاسية قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ومنها مائلة إلى الشهوة دون الغضب ، ومنها على العكس ، ومنها راغبة في المال دون الجاه ، ومنها بالخلاف ومن الراغبين في المال من يرغب في العقار دون الأثمان والنقود ، ومنهم من هو بالعكس. ومما يؤكد هذه المعاني قوله سبحانه وتعالى : (بِإِذْنِ رَبِّهِ) أي بتيسيره وهو في موضع الحال كأنه قيل : يخرج نباته حسنا كاملا لوقوعه في طباق (نَكِداً) والنكد الذي لا خير فيه. وتقدير الآية ونبات البلد الخبيث لا يخرج ، أو البلد الخبيث لا يخرج نباته إلا نكدا فحذف المضاف الذي هو النبات وأقيم المضاف إليه وهو الضمير الراجع إلى البلد مقامه فانقلب مرفوعا مستكنا بعد أن كان مجرورا بارزا. من قرأ (نَكِداً) بفتح الكاف فعلى المصدر أي ذا نكد (كَذلِكَ) مثل ذلك التصريف نردّد الآيات ونكررها (لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ) نعمة الله لأن فائدة التصريف تعود عليهم وإنما ختم الآية بالحث على الشكر لأن الذي سبق ذكره هو أن الله تعالى يرسل الرياح النافعة فيجعلها سببا للمطر الذي هو سبب الملاذ والطيبات فهذا يدل من أحد الوجهين على وجود الصانع وقدرته ، ومن الوجه الثاني على عظيم نعمته وقدرته فوجب من هذا الوجه مقابلتها بالشكر والله أعلم.

التأويل : عرّف ذاته للخلق بصفات الهوية والألوهية والقادرية والخالقية والمدبرية والحكيمية والاستوائية فقال : (إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ) الآية وإنما خص ستة أيام لأن أنواع المخلوقات ستة : الأوّل الأرواح الإنسانية (ب) الملكوتيات منها الملائكة والجن والشياطين وملكوت السموات والأرض ومنها العقول المفردة والمركبة. (ج) النفوس السماوية الأرضية. (د) الأجرام البسيطة العلوية كالعرش والكرسي والسموات والجنة والنار. (ه) الأجسام البسيطة السفلية وهي العناصر ، والأجسام الكثيفة المركبة من العناصر ، فلما خلق الأنواع الستة استوى على العرش بعد الفراغ من خلقها استواء التصرف في العالم وما فيه. وخص العرش بالاستواء لأنه مبدأ الأجسام اللطيفة القابلة للفيض الرحماني. والاستواء كالعلم صفة من صفاته لا يشبه استواء المخلوقين كما أن علمه لا يشبه علم المخلوقين. ومن أسرار

٢٦٣

الخلافة الروح تتصرف في النطفة أيام الحمل فتجعلها عالما صغيرا ، فبدنه كالأرض. ورأسه كالسماء والقلب كالعرش ، والسر كالكرسى ، والقلب يقسم فيض الروح إلى القالب كما أن العرش يقسم فيض الإله إلى سائر المخلوقات (يُغْشِي) أي يستولي ليل ظلمات النفس وصفاتها على نهار أنوار القلب وبالعكس. (أَلا لَهُ الْخَلْقُ) بواسطة (وَالْأَمْرُ) بلا واسطة (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً) بالجوارح (وَخُفْيَةً) بالقلوب. أو تضرعا بأداء حق العبودية وخفية بمطالب حق الربوبية (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) الذين يطلبون منه سواه (وَلا تُفْسِدُوا) في أرض القلوب بعد أن أصلحها الله برفع الوسائط. (وَادْعُوهُ خَوْفاً) من الانقطاع (وَطَمَعاً) في الاصطناع ، أو خوفا من الاثنينية وطمعا في الوحدة ، أو خوفا من الانفصال وطمعا في الوصال. (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) الذين لا يرون سواه يرسل رياح العناية فينشر سحاب الهداية سحابا ثقالا بأمطار المحبة ، سقناه لكل قلب ميت فأنزلنا به ماء المحبة فأخرجنا به ثمرات المكاشفات والمشاهدات ، كذلك نخرج موت القلوب من قبور الصدور ولعلكم تذكرون أيام حياتكم في عالم الأرواح إذ كنتم في رياض القدس وحياض الأنس. والبلد الطيب القلب الحي يتخلق بأخلاقه الحميدة (كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ) أي النفوس وصفاتها إلى أوصاف القلب وأخلاقه.

(لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤) وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ

٢٦٤

سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢))

القراآت : (إِلهٍ غَيْرُهُ) بالجر على الوصف حيث كان : يزيد وعلي الباقون بالرفع حملا على محل (مِنْ إِلهٍ إِنِّي أَخافُ) بفتح الياء : أبو عمرو وأبو جعفر ونافع وابن كثير (أُبَلِّغُكُمْ) بالتخفيف حيث كان : أبو عمرو. والباقون : بالتشديد. عباس : بالاختلاس (بَصْطَةً) بالصاد : أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد وأبي عون عن قنبل وعاصم وعلي وسهل وشجاع وابن الأخزم عن ابن ذكوان الحلواني عن قالون مخيرا.

الوقوف : (غَيْرُهُ) ط (عَظِيمٍ) ه (مُبِينٍ) ه (الْعالَمِينَ) ه لا يعلمون ه (تُرْحَمُونَ) ه (بِآياتِنا) ط (عَمِينَ) ه (هُوداً) ط (غَيْرُهُ) ط (تَتَّقُونَ) ه (الْكاذِبِينَ) ه (الْعالَمِينَ) ه (أَمِينٌ) ه (لِيُنْذِرَكُمْ) ط لتناهى الاستفهام بسطة ج تنبيها على الإنعام العام بعد ذكر إنعام خاص مع اتفاق الجملتين (تُفْلِحُونَ) ه (آباؤُنا) ج للعدول مع فاء التعقيب (الصَّادِقِينَ) ه (وَغَضَبٌ) ط (مِنْ سُلْطانٍ) ج لانتهاء الاستفهام إلى أمر التهديد (الْمُنْتَظِرِينَ) ه (مُؤْمِنِينَ) ه.

التفسير : لما ذكر في تقرير المبدأ والمعاد دلائل قاهرة وبينات باهرة شرع في قصص الأنبياء وفي ذلك فوائد منها ، التنبيه على أن إعراض الناس عن قبول الدلائل عادة معتادة فيكون فيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومنها بيان سوء عاقبة المستكبرين وحسن عقبى المطيعين وفي ذلك تقوية قلوب المحقين وكسر قلوب المبطلين. ومنها التنبيه على أن الله سبحانه لا يهمل المبطلين وإن كان يمهلهم. ومنها العظة والاعتبار (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) [يوسف : ١١١] ومنها الدلالة على نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من حيث إنه إخبار بالغيب لأنه أمي لم يقرأ الكتب فيكون قد عرف ذلك بالوحي لا محالة. فمن القصص أولاها قصة آدم وقد مرت في أوّل السورة. الثانية قصة نوح وهو نوح بن لمك بن مثوشلخ بن أخنوخ ، وأخنوخ اسم إدريس. قيل : كان اسمه يشكر فسمي نوحا لكثرة ما ناح على نفسه حين دعا على قومه فأهلكوا فندم ، أو حين راجع ربه في شأن ابنه ، أو حين مر بكلب مجذوم فقال له : اخسأ يا قبيح فعوتب على ذلك. قال الله له : أعبتني إذ خلقته أم عبت الكلب؟ وهذه الوجوه متكلفة فإن الإعلام لا تفيد صفة في المسمى. والصحيح أنه اسم أعجمي. قال ابن عباس : معنى أرسلنا بعثنا. وقال آخرون : معناه أنه تعالى حمله رسالة

٢٦٥

يؤدّيها ، فالرسالة على هذا التقدير تكون متضمنة للبعث فيكون البعث كالتابع لا أنه أصل. قال في التفسير الكبير : وهذا البحث مبني على مسألة أصولية هي أن الرسول أرسل إلى قوم ليعرّفهم أحكاما لا سبيل لهم إلى معرفتها بعقولهم ، أو الغرض من بعثته مجرد تأكيد ما في العقول. وهذا الاختلاف بتفاريع المعتزلة أليق ، أمرهم نوح بعبادة الله ثم حكم بأنه لا إله إلا الله ثم حذرهم عذاب يوم عظيم هو القيامة أو الطوفان ، ولم يذكر دليلا على هذه الدعاوى الثلاث لأن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد ظهور المعجزة حجة ، أو لعله قد ذكر الحجج وما حكاها الله تعالى لأنه قد علم من القرآن ذم التقليد في مواضع كثيرة فيعلم أن نبي الله لا يأمر قومه بالتقليد المحض ، وأيضا قد مر دلائل التوحيد والنبوّة وصحة القرآن من أول سورة البقرة إلى هاهنا غير مرة ، فوقع التعويل على ذلك هذا مع أن الحكم الثاني كالعلة للأوّل لأنه إذا لم يكن لهم إله غيره كان كل ما حصل عندهم من وجوه النفع والإحسان والبر واللطف حاصلا منه ، ونهاية الإنعام توجب غاية التعظيم ومن هنا قال بعض العلماء : لا يحسن منا عبادة الله تعالى قبل العلم بأنه واحد لأنا إذا جوّزنا التعدد لم يتعين المنعم فتقع العبادة ضائعة ، والإله معناه المستحق للعبادة وإلا فهو في الأزل غير معبود. ومعنى الخوف في الآية قال بعضهم : الجزم واليقين فإنه كان جازما بنزول العذاب بهم عاجلا وآجلا. وقال آخرون : الشك لأنه كان يجوّز إيمانهم ومع هذا التجويز كيف يجزم بالعذاب ، أو لعل السمع لم يرد بعد فلهذا كان متوقفا ، أو لعله وصف العذاب بالعظم ولكنه جر على الجوار. ثم إنه تردد في وصف العذاب بالعظم لا في نفس العذاب. وقيل : المراد من الخوف التحذير. وجملة قوله : (إِنِّي أَخافُ) بيان للداعي إلى عبادته لأنه هو المحذور عقابه دون الأصنام (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) أي الأشراف وصدور المجالس الذين هم بعض قومه في جواب نوح (إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ) في ذهاب عن طريق الحق. والصواب مبين بين والرؤية رؤية القلب بمعنى الاعتقاد والظن دون المشاهدة والبديهة. نسبوه إلى الضلال فيما ادعاه من التكليف والتوحيد والنبوّة والمعاد (قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ) لم يقل ضلال ليكون أبلغ في عموم السلب كأنه قال : ليس بي نوع من أنواع الضلال ، ثم لما نفى عن نفسه العيب الذي نسب إليه وصف نفسه بأشرف الصفات وأجلها فاستدرك قائلا : (وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) وهذا الاستدراك يسمى في علم البيان تأكيد المدح بما يشبه الذم. وفي ذلك بيان فرط جهالتهم وعتوّهم حيث وصفوا من هو بهذه المنزلة من الهدى بالضلال الظاهر الذي لا ضلال بعده. وفيه أن مدح الإنسان نفسه إذا كان في موضع الضرورة جائز. ثم ذكر ما هو المقصود من البعثة وهو أمران : الأول تبليغ الرسالة ، والثاني تقرير النصيحة فقال (أُبَلِّغُكُمْ) الآية. والجملة استئناف

٢٦٦

بيان لكونه رسولا من رب العالمين ، أو صفة لرسول. وإنما جاز أن تكون صفة ولفظ الرسول غائب نظرا إلى المعنى كقوله : أنا الذي سمتن أمي حيدره (رِسالاتِ رَبِّي) ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة ، أو ما أوحي اليّ في المعاني المختلفة من الأوامر والنواهي. وشرح مقادير الثواب والعقاب في الآخرة ومقادير الحدود والزواجر في الدنيا. ويجوز أن يريد رسالاته إليه وإلى الأنبياء قبله من صحف جده إدريس وهي ثلاثون صحيفة ، ومن صحف شيث وهي خمسون صحيفة (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) قال الفراء : العرب لا تكاد تقول نصحتك وإن كان جائزا ولكن تقول نصحت لك. قال في الكشاف : وفي زيادة اللام مبالغة ودلالة على إمحاض النصيحة. وحقيقة النصح الإرشاد إلى المصلحة مع خلوص النية من شوائب المكر. ومعنى الآية : وأبلغكم تكاليف الله ثم أرشدكم إلى الأصلح الأصوب وأدعوكم إلى ما دعاني الله تعالى وأحب لكم ما أحب لنفسي (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) أي أعلم أنكم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطوفان ، وذلك أنهم لم يسمعوا بقوم حل بهم العذاب قبلهم أو أعلم أن الله يعاقبكم في الآخرة عقابا ، أو أعلم من توحيد الله من صفات جلاله ما لا تعلمون ، ويكون المقصود حمل القوم على أن يرجعوا إليه في طلب تلك العلوم. (أَوَعَجِبْتُمْ) الهمزة للإنكار ، والمعطوف محذوف والتقدير : أكذبتم وعجبتم من أن جاءكم ذكر من ربكم. قال الحسن : يعني الوحي الذي جاءهم به. وقال آخرون : الذكر المعجز كتابا أو غير كتاب. وقيل : هو الموعظة (عَلى رَجُلٍ) أي على لسانه قاله ابن قتيبة ونظيره (آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) [آل عمران : ١٩٤] وقال الفراء «على» بمعنى «مع» تقول : جاءنا الخبر على وجهك ومع وجهك كلاهما جائز. وقيل : أي منزل على رجل. ومعنى (مِنْكُمْ) من بني نوعكم كأنهم استبعدوا أن يكون لله رسول إلى خلقه لاعتقادهم أن المقصود من الإرسال التكليف ، وأن التكليف لا منفعة فيه للمعبود لتعاليه ولا للعابد لتضرره في الحال ، وأما في المآل فالله تعالى قادر على تحصيله بدون واسطة التكليف. وأيضا إن العقل كاف في معرفة الحسن والقبيح ، وما لا يعلم حسنه ولا قبحه فإن كان المكلف مضطرا إليه فعل لأنه تعالى لا يكلف مالا يطاق ، وإن لم يكن مضطرا إليه ترك حذرا عن الخطر وبتقدير أنه لا بد من الرسول فإن إرسال الملائكة أولى لشدة بطشهم ووفور عصمتهم وطهارتهم واستغنائهم عن الأكل والشرب والنكاح ، وبتقدير جواز كون النبي من البشر فلعلهم اعتقدوا أن من كان فقيرا خاملا لا يصلح للنبوّة فأنكر نوح عليه‌السلام كل هذه الأشياء لأنه تعالى خالق الخلق فله بحكم الإلهية أن يأمر عباده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها ، ولا يجوز أن يخاطبهم بتلك التكاليف من غير واسطة لأن ذلك ينتهي إلى حد

٢٦٧

الإلجاء المنافي للتكليف ، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسول ملكا لأن الجنس إلى الجنس أسكن وقد مر في أوّل «الأنعام». ثم بين ما لأجله يبعث الرسول فقال (لِيُنْذِرَكُمْ) الآية. وإنه ترتيب أنيق لأن المقصود من البعثة الإنذار ، ومن الإنذار التقوى ، ومن التقوى الفوز برحمة الله. قال الجبائي والكعبي : في الآية دلالة على أنه تعالى لم يرد من المبعوث إليهم إلا التقوى والفوز بالجنة دون الكفر والعذاب ، وعورض بالعلم والداعي كما مر مرارا (فَكَذَّبُوهُ) في ادعاء النبوّة وتبليغ التكاليف وأصروا قال بعض العلماء : ما في حق العقلاء من التكذيب فبغير الباء نحو كذبوا رسلي وكذبوه ، وما في حق غيرهم فبالباء نحو كذبوا بآياتنا. والتحقيق أن المراد كذبوا رسلنا برد آياتنا (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ) استقروا (مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) وأنجيناهم في السفينة من الطوفان. قيل : كانوا أربعين رجلا وأربعين امرأة. وقيل : كانوا تسعة وهم بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. وإنما قال في سورة يونس (فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ) [الآية : ٧٣] لأن التشديد للتكثير ولفظة من أدل على العموم ولهذا يقع على الواحد والتثنية والجمع والذكر والمؤنث بخلاف الذين (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) قال ابن عباس : عميت قلوبهم عن معرفة التوحيد والنبوّة والمعاد. وقال أهل اللغة : يقال رجل عم في البصيرة وأعمى في البصر. فالعمى يدل على عمّى ثابت والعامي على عمّى حادث.

القصة الثالثة قصة هود وذلك قوله سبحانه (وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً) والتقدير لقد أرسلنا نوحا إلى قومه وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا. واتفقوا على أن هودا ما كان أخاهم في الدين. ثم قال الزجاج : معناه أنه كان من آدم ومن جنسهم لا من جنس الملائكة والجن. وقيل : أراد واحدا منهم قاله الكلبي ، وهو من قولك يا أخا العرب لواحد منهم ، وقيل : خص واحدا منهم بالإرسال إليهم ليكونوا أعرف بحاله في صدقه وأمانته. وقيل : معناه صاحبهم. والعرب تسمي صاحب القوم أخاهم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم «إن أخاكم أذن وإنما يقيم من أذن» يريد صاحبهم. ونسبه هود بن شالخ بن ارفخشذ بن سام بن نوح و (هُوداً) عطف بيان لأخاهم. وأما عاد فهم كانوا باليمن بالأحقاف. قال ابن إسحق : والأحقاف الرمل الذي بين عمان إلى حضرموت. واعلم أن ألفاظ هذه القصة بعضها يوافق الألفاظ المذكورة في قصة نوح وبعضها يخالفها فلنبين أسرارها فمنها قوله هناك (فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ) وهاهنا (قالَ يا قَوْمِ) والفرق أن نوحا عليه‌السلام كان مواظبا على دعوتهم وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة ، وأما هود فما كان جدّه إلى هذا الحد فلا جرم جاء بالتعقيب في قصة نوح دون قصة هود. ويمكن أن يقال : لما أضمر (أَرْسَلْنا) أضمر الفاء لأن الداعي إلى الفاء (أَرْسَلْنا) وفي الكشاف أن هذا وارد على سبيل الاستئناف. ومنها قوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ

٢٦٨

غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) وفي قصة هود (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ) لأن واقعة هود كانت مسبوقة بواقعة نوح فوقع الاقتصار على ذلك أي لعلكم تحذرون مثل ذلك العذاب العظيم الذي اشتهر خبره في الدنيا. ومنها (قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ) وفي قصة هود (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ) إما أن هذا وصف وارد للذم لا غير ، وإما أنه لم يكن في أشراف قوم نوح من يؤمن وكان في أشراف قوم هود من آمن به منهم مرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فأريد التفرقة بالوصف. ومنها أن قوم نوح قالوا إنا (لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) وقوم هود قالوا (إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ) أي متمكنا منها تمكن المظروف من الظرف. وذلك أن نوحا كان يخوّفهم بالطوفان العام وكان يشتغل بإعداد السفينة مدّة طويلة فوصفوه بضعف الرأي والبعد عن السداد. وأما هو فما ذكر شيئا إلا أنه زيف معتقدهم في عبادة الأصنام وطعن فيها فقابلوه بمثله ونسبوه إلى السفاهة وخفة العقل حيث فارق دين قومه. ثم قالوا (وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادعاء الرسالة. قيل : الظن بمعنى الجزم واليقين كقوله (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ) [البقرة : ٤٦] قال الحسن والزجاج : كانوا شاكين فيعلم أن الشك والتجويز في أصول الدين يوجب الكفر. ومنها قول نوح (وَأَنْصَحُ لَكُمْ) وقال هود (وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ) وذلك لأنه كان من عادة نوح عليه‌السلام العود إلى تجديد تلك الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة ، وصيغة الفعل دلت على التجدد المستمر ولهذا (قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) [نوح : ٥] إلى آخر الآيات. وأما هود فكان ثابتا على النصح غير مجدد إياه لحظة فلحظة كما كان يفعل نوح. ثم إن نوحا عليه‌السلام قال (وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لأنه كان يعلم من أسرار الله تعالى ما لم يصل إليه هود فلا جرم أمسك هود لسانه واقتصر على وصف نفسه بكونه أمينا ثقة أي عرفت فيما بينكم بالنصح والأمانة فليس من حقي أن آتي بالكذب والغش. أو المراد تقرير الرسالة فإنها تدور على الأمانة أي أنا لكم ناصح فيما أدعوكم إليه ، أمين على ما أقول لكم لا أكذب فيه. وفي هذين الجوابين عن مثل ذينك الشخصين مع جلالة قدرهما دليل على أن الحكيم يجب أن لا يقابل السفهاء إلا بالكلام المبني على الحلم والإغضاء. ومنها أن هودا اقتصر على قوله (لِيُنْذِرَكُمْ) لما مر في قصة نوح أن فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة فلم يكن حاجة إلى الإعادة ولكنه ضم إلى ذلك شيئا آخر يختص بهم فقال (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ) أي خلفتموهم في الأرض أو جعلكم ملوكا قد استخلفكم فيها بعدهم وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأملاكهم وما يتصل بها من المنافع ، «وإذا» مفعول به لا ظرف أي اذكروا وقت جعلكم خلفاء (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) فالخلق التقدير وقلما يطلق إلا

٢٦٩

على الشيء الذي له مقدار وحجمية. والمراد حصول الزيادة في أجسامهم زيادة خارقة للعادة وإلا لم تذكر في معرض الامتنان. قال الكلبي : كان أطولهم مائة ذراع وأقصرهم ستين ذراعا. وقال آخرون : تلك الزيادة هي مقدار ما تبلغه يد الإنسان إذا رفعها كانوا يفضلون على أهل زمانهم بهذا القدر. ومنهم من حمل اللفظ على الزيادة في القوة ، ومنهم من قال : الخلق الخليقة وبسطتهم فيهم كونهم من قبيلة واحدة متشاركين في القوة والشدّة والجلادة متناصرين متوادّين (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) في استخلافكم وبسطة أجرامكم وفيما سواهما من عطاياه وآلاء الله نعمه واحدها إلى ونحوه إني وآناء كعنب وأعناب. قال الجوهري : واحدها إني بالفتح وقد يكسر ويكتب بالياء. استدل الطاعنون في وجوب الأعمال الظاهرة بالآية قالوا : إنه تعالى رتب حصول الفلاح على مجرد التذكر. وأجيب بأن الآيات بالدالة على وجوب العمل مخصصة أو مقيدة والتقدير : فاذكروا آلاء الله واعملوا عملا يليق بذلك الإنعام لعلكم تفلحون. ذكرهم نبيهم نعم الله عليهم ليرجعوا إلى عقولهم فيعلموا أن العبادة نهاية التعظيم ولا تلق إلا بمن صدر عنه نهاية الإنعام وليس للأصنام على الخلق شيء من النعم لأنها جماد والجماد لا قدرة له أصلا فلم يكن للقوم جواب عن هذه الحجة إلا التمسك بطريقة التقليد وذلك قولهم (أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللهَ وَحْدَهُ) الهمزة لإنكار اختصاص الله وحده بالعبادة. وفي المجيء أوجه منها : أن يكون لهود معتزل يتحنث فيه أي يتعبد كما كان يفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء قبل المبعث ، فلما أوحي إليه جاء قومه يدعوهم. ومنها الاستهزاء اعتقادا منهم أن الله لا يرسل إلا ملكا فكأنهم قالوا : أجئتنا من السماء كما يجيء الملك؟ ومنها أن يراد به القصد كما يقال : ذهب يشتمني ، ولا يراد حقيقة الذهاب كأنهم قالوا : أتعرضت لنا بتكليف عبادة الله وحده أي منفردا عن الأصنام وهو من المعارف التي وقعت حالا بتأويل. ولا يمكن أن يكون وحده هاهنا اعترافا كما يقول الموحد لا إله إلا الله وقال الله وحده لأن الفرض أنهم مشركون. ثم إن قول هود فيما قبل (أَفَلا تَتَّقُونَ) كان مشعرا بالتهديد والوعيد فلهذا استعجلوا العذاب زعما منهم أنه كاذب وذلك قولهم (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) فأجابهم هود بقوله (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) ولا بد أن يحملا على معنييين متغايرين لمكان العطف. أما الغضب في حقه تعالى فإرادة إيقاع السوء كما سبق مرارا ، وأما الرجس فقيل : العذاب. واعترض عليه بلزوم التكرار. وقيل : العقائد المذمومة والصفات القبيحة. وذلك أن الرجس ضد التطهير كما قال سبحانه في صفة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] وقال القفال : الرجس هو الازدياد في الكفر بالرين على القلوب كما قال (فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) [التوبة : ١٢٥] وهذا التفسير أخص. أما قوله (قَدْ وَقَعَ) ولم يقع العذاب بعد

٢٧٠

ففيه وجوه : قال بعض من يقول بأن إرادة الله تعالى حادثة : معناه أنه تعالى أحدث إرادة في ذلك الوقت. وقيل : أراد هود أنه أخبر بنزول العذاب. وقيل : جعل المتوقع الذي لا شك فيه بمنزلة الواقع كقولك لمن طلب منك حاجة قد كان ذلك. تريد أنها ستكون البتة. وعن حسان أن ابنه عبد الرحمن لسعه زنبور وهو طفل فجاء أباه يبكي فقال له : يا بني ما لك؟ فقال : لسعني طوير كأنه ملتف في بردي حبرة فضمه إلى صدره وقال : يا بني قد قلت الشعر.

ثم أنكر عليهم قبيح فعالهم فقال (أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ) تناظرونني في شأن آلهة أشياء ما هي إلا أسماء (سَمَّيْتُمُوها) أحدثتموها (أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) أي لا حجة على حقيقتها فتنزل. والحاصل أنها أسماء بلا مسميات لأنكم تسمونها آلهة ومعنى الإلهية فيها معدوم محال. سموا واحدا بالعزي مشتقا من العز وما أعطاه الله تعالى عزا أصلا. وسموا آخر منها باللات من الإلهية وماله من الإلهية أثر. وإنما قال في هذه السورة نزل وفي غيرها مما سيجيء (أَنْزَلَ) لأن «نزل» للتكثير فيكون للمبالغة ويجري ما بعده مجرى التفصيل للجملة ، أو أنواع للجنس والله أعلم. ثم إنه ذكرهم وعيدا محدودا فقال (فَانْتَظِرُوا) سوء عاقبة هذه الأصنام (إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ) عاقبة السوء أو عاقبة الحسنى وذلك قوله (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ) بسبب رحمة كانوا يستحقونها (مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا) أي استأصلناهم ودمرناهم عن آخرهم وقد مر مثله في الأنعام. وفائدة نفي الإيمان عنهم في قوله (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) مع إثبات التكذيب بآيات ربهم أن يكون تعريضا بمن آمن منهم كمرثد بن سعد وغيره كأنه قيل : ولقد قطعنا دابر الذين كذبوا ولم يكونوا مثل من آمن منهم ، أو معنى (وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ) في علم الله تعالى أي لم يكونوا من المكذبين الذي لو بقوا لآمنوا. قال في الكشاف : وإن عادا قد تبسطوا في البلاد ما بين عمان وحضرموت وكانت لهم أصنام يعبدونها. صداء وصمود والهباء فبعث الله هودا نبيا وكان من أوسطهم وأشرفهم وأفضلهم حسبا فكذبوه وازدادوا عتوا وتجبرا ، فأمسك الله عنهم القطر ثلاث سنين حتى جهدوا. وإن الناس كانوا إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى الله الفرج من ذلك عند بيته الحرام مسلمهم ومشركهم وأهل مكة إذ ذاك العماليق أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح وسيدهم معاوية بن بكر ، فجهزت عاد إلى مكة من أماثلهم سبعين رجلا منهم قيل بن عنز ومرثد بن سعد الذي كان يكتم إسلامه فلما نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجا من الحرم أنزلهم وأكرمهم وكانوا أخواله وأصهاره فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان كانتا لمعاوية إحداهما وردة والأخرى جرادة ولما رأى طول مقامهم وذهولهم باللهو عما قدموا لأجله أهمه ذلك وقال : قد هلك أخوالي

٢٧١

وأصهاري وهؤلاء على ما هم عليه وكان يستحي أن يكلمهم خيفة أن يظنوا أنه ثقل مقامهم عليه فذكر ذلك للقينتين فقالتا : قل قولا نغنيهم به لا يدرون من قاله فقال معاوية :

ألا يا قيل ويحك قم فهينم

لعل الله يسقينا غماما

ويسقي أرض عاد إن عادا

قد أمسوا ما يبينون الكلاما

الهينمة إخفاء الكلام في الدعاء وغيره ، ومعنى يسقينا يجعله ساقيا لنا. وقوله ما يبينون الكلام أي لا يكادون يفقهون قولا من ضعفهم وسوء حالهم. فلما غنتا به قالوا : إن قومكم يتغوّثون من البلاء الذي نزل بهم وقد أبطأتم عليهم فادخلوا الحرم واستسقوا لقومكم. فقال لهم مرثد بن سعد : والله لا يسقون بدعائكم ولكم إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى ربكم سقيتم وأظهر إسلامه. فقالوا لمعاوية : أحبس عنا مرثدا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم فأنشأ الله سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ثم ناداه مناد من السماء يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال : اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء فخرجت على عاد من واد لهم يقال له المغيث فاستبشروا بها وقالوا : هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه فأتوا مكة فتعبدوا الله فيها حتى ماتوا.

التأويل : لقد أرسلنا نوح الروح إلى قومه ببلاد القوالب وهم القلب وصفاته والنفس وصفاتها ، ومن صفة الروح العبودية والطاعة دعوة القلب والنفس وصفاتها إلى الله وعبوديته ، ومن صفات النفس تكذيب الروح ومخالفته والإباء عن نصحه والتعجب (فَكَذَّبُوهُ) يعني النفس وصفاتها نوح الروح (فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ) في الفلك الشريعة (وَأَغْرَقْنَا) النفس وصفاتها في البحر الدنيا وشهواتها (إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ) عن رؤية الله والوصول إليه (وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً) كما أوقع التفاوت بين شخص وشخص فيما يعود إلى المباني أوقع التباين بين قوم وقوم فيما يرجع إلى المعاني (قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ) أي مقالتكم تدل على حالتكم أنه أصابكم سطوات العذاب. فمن أمارات الإعراض رد العبد إلى شهود الأغيار وتغريقه إياه في بحار الظنون والأوهام والجدال.

(وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ

٢٧٢

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤))

القراآت : وقال الملأ بالواو : ابن عامر (إِنَّكُمْ) بحذف همزة الاستفهام : أبو جعفر ونافع وحفص وسهل. أإنكم بهمزتين : ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص ، وهشام يدخل بينهما مدة ، آينكم بالمد وبالياء : أبو عمرو وزيد. أينكم بالهمزة والياء : ابن كثير ويعقوب غير زيد.

الوقوف : (صالِحاً) ج لئلا يظن أن (صالِحاً) صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية (غَيْرُهُ) ط (مِنْ رَبِّكُمْ) ط (أَلِيمٌ) ه (بُيُوتاً) ط لما مر في قصة هود (مُفْسِدِينَ) ه (مِنْ رَبِّهِ) ج (مُؤْمِنُونَ) ه (كافِرُونَ) ه (الْمُرْسَلِينَ) ه (جاثِمِينَ) ه (النَّاصِحِينَ) ه (مِنَ الْعالَمِينَ) ه (مِنْ دُونِ النِّساءِ) ط لمكان الإضراب. (مُسْرِفُونَ) ه (مِنْ قَرْيَتِكُمْ) ج لاحتمال التعليل استهزاء (إِلَّا امْرَأَتَهُ) ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة (مِنَ الْغابِرِينَ) ه (مَطَراً) ط (الْمُجْرِمِينَ) ه.

التفسير : القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود. قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي ، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل : إن ثمود أخو جديس وطسم. وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعا قال تعالى (أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ

٢٧٣

أَلا بُعْداً لِثَمُودَ) [هود : ٦٨] (قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ) آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل : ما تلك البينة فقال (هذِهِ ناقَةُ اللهِ لَكُمْ آيَةً) وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليها أو أنبه عليها آية. و (لَكُمْ) بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهم ثمود. وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة. أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص. وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيما لها وتفخيما لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول : آية الله وبيت الله ، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات. فخروجها من الجبل آية ، وكونها لا من ذكر وأنثى آية ، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية ، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية ، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها ، وأنكر الحسن فقال : إنها لم تحلب قطرة لبن قط. ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها. وقيل : سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى. وقيل : لأنها حجة الله على القوم (فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها (وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراما لآية الله. (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال (وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ) تفسيره كما في قصة هود (وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ) أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر (تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها) أي تبنون من سهول الأرض قصورا بما تعملون من الأراضي السهلة لبنا وآجرا ورهصا. وانتصاب (بُيُوتاً) على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصا لأن الجبل لا يكون بيتا في حال النحت ولا الثوب قميصا في حال الخياطة. ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله (مِنْ سُهُولِها) كما جاءت في موضع آخر (تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) [الشعراء : ١٤٩] فيكون منصوبا على أنه مفعول به. وقيل : المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء (فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ) يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) قيل : نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم. وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة. (قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار. وقوله (لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) بدل من قوله (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا) بتكرار الجار لشدة الاتصال. والضمير في (مِنْهُمْ) إما أن يرجع إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون ، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن

٢٧٤

أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون ، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين. وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الاستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما (أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ) قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد. (قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ) جعلوا إرساله أمرا بينا مكشوفا مسلما لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا) في جوابهم (إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ) قال الأزهري : العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقا لاسم السبب على المسبب ، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم ، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله (وَإِذْ قَتَلْتُمْ) [البقرة : ٧٢] (وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ) استكبروا عن امتثاله. قال مجاهد : العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه ، أو المراد أمر به صالح من قوله (فَذَرُوها وَلا تَمَسُّوها) والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع. (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد ، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين (فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) قال الفراء والزجاج : هي الزلزلة الشديدة قال تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ) [المزمل : ١٤] قال الليث : هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد. قال تعالى (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ) [الحاقة : ١١] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد ، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) أي في بلدهم كقولك : دار الحرب ودار الإسلام. وقد جمع في آية أخرى فقال : (فِي دِيارِهِمْ) [هود : ٦٧] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزله الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصيحة كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة. ومعنى (جاثِمِينَ) موتى لا حراك بهم. قال أبو عبيدة : الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئا بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ) الفاء للتعقيب. فالظاهر أن صالحا عليه‌السلام أدبر عنهم بعد ما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم (وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) وحد

٢٧٥

الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله ، وهاهنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة ، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط. (وَنَصَحْتُ لَكُمْ) لم آل جهدا في النصيحة (وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) حكاية لحال ماضية. واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة. والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به. ولعل القائل أيضا يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به ، وإن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال : يا فلان ويا فلان قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فقيل له : كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال : ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب. وتفسير آخر وهو أن يكون تولى عنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وجملة قصتهم ما روي أن عادا لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعمارا طوالا حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش ، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحا وكانوا قوما عربا. وصالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال : أية آية تريدون؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك ، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا. فقال صالح : نعم. فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم. ثم قال سيدهم جندع بن عمرو ، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء ، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك ، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن. قالوا : نعم. فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا ، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري : أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني ـ موضع بروكها ـ فوجدته ستين ذراعا. ثم نتجت ولدا مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غبا كما قال عز من قائل (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) [الشعراء : ١٥٥] وذلك أن الماء كان عندهم قليلا فجعلوا

٢٧٦

ذلك الماء بالكلية شربا لها يوما وشربا للقوم يوما. قال السدي : وكانت الناقة في اليوم الذي بشرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صبا ، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي ، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح : يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتا سريعا ، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم. فقال الغلام : هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها فلما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه ، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى (فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ) [القمر : ٢٩] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل : زينت لهم عقرها امرأتان ـ عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار ـ لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلا اسمه قارة فرغا ثلاثا وكان صالح قال لهم : أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح : تصبحون غدا ووجوهكم مصفرة ، وبعد غد ووجوهكم محمرة ، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة ، ثم يصبحكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا. واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصرا على كفره؟ وأجيب بأنهم عنده مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة. عن جابر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما مر بالحجر قال : لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا : من هو قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ذاك أبو رغال. فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه ، وروي أن صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروي أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : أتدرون من هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن هاهنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن. وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعا فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفا وخمسمائة دار ، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم ، ويروى أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه : لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين

٢٧٧

إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم يا علي ، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال : عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين؟ قال : الله ورسوله أعلم. قال قاتلك.

القصة الخامسة قوله سبحانه (وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) تقديره أرسلنا لوطا وقت قال لقومه ، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطا إذ قال لقومه على أن «إذ» بدل من المفعول به لا ظرف. وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين : العجمة والعلمية ، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح (ما سَبَقَكُمْ بِها) قال في الكشاف : الباء للتعدية من قولك : سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم. قلت : ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك : كتبت بالقلم. وفي قوله (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [المؤمنون : ٢٠] أي ما سبقكم ملتبسا بها من أحد من العالمين «من» الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق ، والثانية للتبعيض. وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلا بقوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) ثم وبخهم عليها فقال : وأنتم أوّل من عملها. أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل : لم لا نأتيها؟ فقال : (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ) فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله :

ولقد أمر على اللئيم يسبني

وهاهنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهوة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعا كسائر الحيوانات ، أو المراد أن الإقبال بالكلية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة. قال الحسن : كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس : استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض أإنكم لتأتون الرجال بيان لما أجمله في قوله (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) وكلا الاستفهامين للإنكار. وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه «إن» ومثله في النمل (أَتَأْتُونَ) وبعده (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ) [النمل : ٥٥] وفي العنكبوت (إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) [الآية : ٢٨] (أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ) [النمل : ٥٥] فجمع بين «إن» «وأئن» القصة (إِنَّا مُنَجُّوكَ) إنا منزلون. وانتصب (شَهْوَةً) على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة ، أو مصدر وقع حالا يقال : شهى يشهى شهوة (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء. وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت (الْعالَمِينَ) (النَّاصِحِينَ)

٢٧٨

(جاثِمِينَ) (الْمُرْسَلِينَ) وفي النمل قال (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) [الآية : ٥٥] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة ، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف. وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال (يُنْصَرُونَ تَتَّقُونَ يَعْلَمُونَ) واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها : أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سببا لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى ، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة. ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال ، فانعكاس القضية يكون خروجا عن مقتضى الطبيعة والحكمة ، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية. وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حيا ، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره. ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول عل قتل الفاعل ، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته. وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى (خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) [الروم : ٢١] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته ، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد منه العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية. قال بعضهم : (وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) [المؤمنون : ٥ ، ٦] يقتضي حل وطء المملوك مطلقا ذكرا كان أو أنثى. ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله (أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ) [الشعراء : ١٦٥] لأن كلا من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكرا وقد لا يكون ، والذكر قد يكون مملوكا وقد لا يكون ، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف ، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط. وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى (وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ) بالواو كيلا يكون التعقيب

٢٧٩

بالفاء بعد الاسم. وفي النمل (تَجْهَلُونَ فَما كانَ) [النمل : ٥٥] وفي العنكبوت (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ) لصحة تعقيب الفعل الفعل (إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ) [الآية : ٢٩] وفي النمل (أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) [الآية : ٥٦] ليكون ما في النمل تفسيرا لهذه الكناية وقيل : إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية. قال في الكشاف : يعني ما أجابوه بما يكون جوابا عما كلمهم به لوط عليه‌السلام من إنكار الفاحشة. ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من فريتهم ضجرا بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم ، وقولهم (إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم : أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقيل : المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر. وقيل : ان البعد عن الإثم يسمى طهارة ، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثام (فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ) أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه ، وعن ابن عباس : أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله (إِلَّا امْرَأَتَهُ) يقال : امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج (كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) وفي النمل (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) [النمل : ٥٧] أي كانت في علم الله من الغابرين. (قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ) وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين ، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا ، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. ثم وصف العذاب فقال (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) أي أرسلنا عليهم نوعا من المطر عجيبا. قيل : كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل : كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة. فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل : خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل : أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي أن تاجرا منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوما حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه (فَانْظُرْ) يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده.

مسائل : الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا ، ولأن ذكر الحكم عقيب

٢٨٠